الخميس، 31 مارس 2011

متى ظهرت عقيدة الألف سنة؟

أولاً : لمحة تاريخية:
ظهرت فكرة الملك الألفي نتيجة الضغوط الشديدة والعبودية القاسية التى كان يعاني منها الشعب اليهودي تحت نير الاستعمار الروماني ـ والذى بدأ عام 332 ق. م ـ فبدأوا يفسرون نبوات العهد القديم بما يتناسب ومطالبهم الوقتية المادية، فظهرت بعض الكتب التى ألَّفها أشخاص ضالعون فى المعرفة، ولكنهم لم يكونوا مسوقين بالروح القدس؛ مثل: رؤيا عزرا الثاني، وأخنوخ، ورؤيا باروخ، وموسى وغيرها مما كُتِب فى القرن الثاني قبل الميلاد. وضعوا فيها كل تصوراتهم وأحلامهم الجسدية، وهذه الكتابات ما هى إلانوع من الهروب من الضغوط الشديدة التى كانوا يعيشون تحتها، وهروب من مواجهة الواقع وتحمل المسؤولية؛ فنادوا بملكوت أرضي لإسرائيل فيه كل المتع الأرضية، حيث تكون إسرائيل هى عروس الدنيا التى تأكل وتشرب خيرات الأمم، وباقي الأمم يلحسون من تحت قدميها. وقد شاعت هذه الأفكار عند اليهود فى العصور السابقة لمجىء المسيح مباشرة. فمثلاً فى سفر باروخ الثاني وهو كتاب يهودي ظهر فى القرن الأول قبل الميلاد نقرأ هذه الكلمات:
"ثم يأتي المسيا فيخضع كل ما فى العالم، ويجلس على كرسيه، ويبدو الفرح وتظهر الراحة وتأتي وحوش البرية من الأحراش وتخدم الناس، ويلعب الرضيع على سرب الصل ويمد الفطيم يده على جحر الأفعوان فتخرج الأفاعى من جحورها وتقدم له كل ولاء وخضوع تام والأرض تخرج ثمرها مضاعفاً آلاف المرات، وسيكون على كل كرمة ألف غصن، وفى كل غصن ألف عنقود، وفى كل عنقود ألف عنبة، وكل عنبة تنتج ألف كر من الخمر فيفرح الجياع بل يرون عجائب كل يوم".
كل هذه الأشواق الجسدية لا تتفق وروح المسيحية فى شئ، ولكن الضغوط الشديدة أفرزت هذه الأحلام.وهكذا نجد التلاميذ قبل أن يحل عليهم الروح القدس، وهم فى حالة عدم فهم، يسألون المسيح: «يَا رَبُّ هَلْ فِي هَذَا الْوَقْتِ تَرُدُّ الْمُلْكَ إِلَى إِسْرَائِيلَ؟» (أع1 : 6). وجاء شخص آخر للمسيح وقال له: «يَا سَيِّدُ أَتْبَعُكَ أَيْنَمَا تَمْضِي». (لو9 : 57). فقد كان يظن أنه الملك الأرضي الذى سيجعل إسرائيل سيدة الممالك. وكذلك جاءت أم ابنيّ زبدي وطلبت من المسيح أن يجعل ابنيها واحداً عن يمينه والآخر عن يساره فى ملكوته. وعندما صنع المسيح معجزة إشباع الجموع، أراد اليهود أن يختطفوه ليجعلوه ملكاً (يو6 : 15).
والشىء المدهش هو أن بعض آباء الكنيسة قبلوا هذه التعاليم بدون فحـص، وعلى رأسـهم (بابياس) أسـقف هيرابوليس بآسيا الصغرى (130م). ويقول يوسابيوس القيصري، أبو التاريخ الكنسي عن بابياس: "يبدو أنه كان محدود الإدراك جداً كما يتبين من أبحاثه، ومن ضمن أقواله أنه ستكون فترة ألف سنة بعد قيامة الأموات، وأن ملكوت المسيح سوف يؤسَّس على نفس هذه الأرض بكيفية مادية. وأظن أن بابياس وصل إلى هذه الآراء بسبب قصور فهمه للكتابات الرسولية، غير مدرك أن أقوالهم كانت مجازية روحية. وإليه يرجع السبب فى أن كثيرين من آباء الكنيسة من بعده اعتنقوا نفس الآراء مستندين فى ذلك على أقدمية الزمن الذى عاش فيه، مثل إيرينيئوس وغيره ممن نادوا بمثل أرائه". وقد أطلق يوسابيوس على فكرة المُلك الألفي الأرضي إنها (خرافة).
ويقول الأب متى المسكين : ثم جاء إيرينيئوس ونادى بنفس التعليم مستشهداً بأقوال بابياس، كذلك جاء من بعده ميليتو وهيبوليتوس وترتليان، مستندين جميعاً كل واحد على من قبله، مع أن الأساس كله هو كتب الأبوكريفا اليهودية المضللة.
ثانياً : ما هو موقف العهد الجديد من الألف سنة؟
يقول الأنبا غريغوريوس: إن ما ورد فى سفر الرؤيا بخصوص الألف سنة (رؤ20 : 1 ـ 6) لم يتكرر بلفظه أو معناه فى أي موضع آخر من سفر الرؤيا، ولا فى غيره من أسفار العهد القديم أو الجديد، مما يدل على المعنى الخاص لهذا النص المقدس، وعلى أنه ينبغي أن يُفهَم بمفهوم معين، خصوصاً وأن سفر الرؤيا ملئ بالرموز. ثم يضيف: نعم لم يرد فى أقوال المسيح له المجد مرة واحدة أنه تحدث عن الحكم الألفي، ولم يرد شئ من هذا القبيل فى جميع الأناجيل وجميع الرسائل بما فيها رسائل القديس يوحنا نفسه، كاتب سفر الرؤيا .
وأنا أؤكد أن الآية الوحيدة (اليتيمة) التى ورد فيها لفظ الألف سنة جاءت فى سفر رمزي نبوي غامض. فقد كتب يوحنا الرائي سفره حوالي عام 98 م، أيام الإمبراطور الروماني دومتيان، الذى كان يضطهد الكنيسة بعنف، ونفى يوحنا إلى جزيرة بطمس (رؤ1 : 9) منفى المجرمين فى ذلك الوقت، وقد كان فوق التسعين فى ذلك الوقت، وبالرغم من ذلك كان يكسر الأحجار هناك، ويعاني من البرد الشديد ليلاً والحر الشديد نهاراً، ولا يجد قوت الحياة، ومن هناك كتب سفره، وبالتأكيد كان تحت حراسة مشددة، وكل سطر يكتبه كان لابد أن يُقرأ عدة مرات من الرقابة، لذلك كتب بالرموز، فنقرأ عن السفر المختوم، وعن الجراد الذى يشبه الخيل وله شعر كشعر النساء، وعن امرأة متسربلة بالشمس والقمر تحت رجليها، والوحش الذى له عشرة قرون ...الخ. وحتى الآيات نفسها التي ورد فيها لفظ (الألف سنة) نجدها مليئة بالرموز، فيقول الرائي: "وَرَأَيْتُ مَلاَكاً نَازِلاً مِنَ السَّمَاءِ مَعَهُ مِفْتَاحُ الْهَاوِيَةِ، وَسِلْسِلَةٌ عَظِيمَةٌ عَلَى يَدِهِ. 2فَقَبَضَ عَلَى التِّنِّينِ، الْحَيَّةِ الْقَدِيمَةِ، الَّذِي هُوَ إِبْلِيسُ وَالشَّيْطَانُ، وَقَيَّدَهُ أَلْفَ سَنَةٍ، 3وَطَرَحَهُ فِي الْهَاوِيَةِ وَأَغْلَقَ عَلَيْهِ، وَخَتَمَ عَلَيْهِ لِكَيْ لاَ يُضِلَّ الأُمَمَ فِي مَا بَعْدُ حَتَّى تَتِمَّ الأَلْفُ السَّنَةِ. وَبَعْدَ ذَلِكَ لاَ بُدَّ أَنْ يُحَلَّ زَمَاناً يَسِيراً" (رؤ20 : 1 ـ 3). وحتى الذين يؤمنون بالملك الألفي الحرفي يقولون عن (المفتاح) و(السلسلة) و(القيد) إنها رموز، فالهاوية ليس لها مفتاح، والشيطان روح لا يمكن ربطه بسلسلة، ولكن عند (الألف سنة) تجدهم يفسرونها بصورة حرفية، أليس هذا تناقضاً فى التفسير؟ هل من المعقول أن نبني عقيدة كبيرة على آية وحيدة غامضة واردة فى سفر رمزي؟
يقول د. توري (R. A. Torry) من العبث أن نفسر نصوصاً كتابية واضحة فى ضوء آية رمزية غامضة، الأجدر بنا أن ندع الواضح الظاهر يفسر الغامض الذى يحتمل الشك والتأويل وليس العكس.
ولكن هذا لا يعني أن نغض الطرف عن هذه الآيات أو نتجاهلها، ولكن سنتناولها فيما بعد بالشرح والتوضيح.
ثالثاً : ما هو موقف الكنيسة الأولى من الألف سنة؟
عندما تكلم بعض آباء الكنيسة دون فحص دقيق للكتب المقدسة عن الملك الألفي الحرفي، تصدى لهم آباء الكنيسة العظماء، وعلى رأسهم العلامة أوريجانوس بحججه القوية، والعلامة ديونيسيوس (248 ـ 265 م)، ويوسابيوس أسقف قيصرية (270 م)، وباسيليوس الكبير (229 ـ 279 م)، وغريغوريوس الكبير (321 ـ 389 م)، القديس جيروم (331ـ 420 م). ثم جاء القديس أغسطينوس (354 ـ 430 م) واستطاع بقوة حجة لا تُقَاوم أن يفندها ويرد على كل من ينادي بها، واعتبرها هرطقة علانية. ويقول الأب متى المسكين : "بهذا يكون القديس أغسطينوس قد انتشل الإيمان المسيحي من لوثة الأبوكـريفا اليهودية المزيفة، ومن محـاولة إسقاط السمو الروحـي المسيحي إلى الأرض، وخـلطه بآمال جسدية هى الصفة الأولى والملازمة للعبادة اليهودية المنحرفة".
وما يؤكد أن فكرة الملك الألفي الحرفي كانت مجرد أوهام وأحلام نتيجة جهل وسطحية بعض آباء القرنين الثالث والرابع، هو أن أقدم وثيقة دينية والتى تحوي عقيدة وعبادة وتنظيم الكنيسة الأولى والتى تسمى "تعاليم الإثني عشر رسولاً" والتى يرجع تاريخها إلى (150 ـ 180م) لا تحوى كلمة واحدة عن المُلك الألفي الحرفي. وجاء فى المادة السادسة عشرة من هذه الوثيقة ما نصه "وعندئذ تظهر علامة الحق أولاً، علامة فتح السماء، ثم صوت البوق، ثم قيامة الموتى، ويأتي المسيح مع جميع القديسين ، وهنا يرى كل من فى العالم رب المجد آتياً على السحاب" ولا توجد أي إشارة إلى حكم المسيح على الأرض لمدة ألف سنة، ولا إشارة إلى قيامة الأبرار قبل الأشرار بألف سنة، ولا إلى اختطاف سري.
وعندما نعود إلى قانون الإيمان الرسولي نجده يقول فى صياغة واضحة "وأيضاً يأتي فى مجده ليدين الأحياء والأموات". وفى قانون الإيمان النيقوي ـ الذى وُضِع عام 325 م ـ الذى يقبله جميع المسيحيين فى الشرق والغرب، تأتي الصياغة واضحة "ويأتي فى مجيئه الثاني ليدين الأحياء والأموات".
وعندما بدأت هذه الأفكار تطل برأسها على الكنيسة، عقدت الكنيسة مجمعها المسكوني الثاني فى القسطنطينية عام (381 م) وأصدرت حكماً نهائياً بلعن البدع التى تفشت فى ذلك العصر عامة، وبدعة "الملك الألفي" الحرفي التى كان يتزعمها أبولوناريوس فى ذلك الوقت، وأضافت إلى قانون الإيمان عبارة "الذى ليس لملكه انقضاء "بعد عبارة "وسيأتي فى مجده ليدين الأحياء والأموات". ثم عادت فى المجمع المسكوني الثالث فى أفسس عام (431 م) وشجبت هذه البدعة واصفة إياها بأنها أوهام أحلام وأساطير خرافية.
وظلت هذه الفكرة نائمة إلى أن عادت للظهور مرة أخرى فى القرن السادس عشرعلى يد جماعة (الأنابابتستس) (Anabaptists). ثم ازدهرت أكثر وترعرعت بداية من القرن الثامن عشر، بالتزامن مع الحركة الصهيونية، وأصبحت هى العقيدة الأساسية لـ (شهود يهوه) و(الأدفنتست) وبعض الجماعات الأخرى. ومع سيطرة الصهيونية على وسائل الإعلام والدعاية فى أمريكا ومعظم الدول الغربية، ونتيجة دعمها السخي لكل من يروجون هذه الأفكار انتشرت كثيراً فى هذه الأيام، فهناك من يدعمون بسخاء طباعة الكتب والمجلات وشرائط الفيديو وال C D التي تقدم هذا الفكر وتوزع بالمجان أو باسعار رمزية، وكذلك لأنها لم تجد من يتصدى لها بالفكر الكتابي المستنير، قبلها عدد كبير من البسطاء.

هناك تعليقان (2):

Bible 11 يقول...

يباركك الرب تكملة مباركه

غير معرف يقول...

برجاء مراجعة تفسير بولس فرج بولس و شكرا